التعامل مع التهديدات
عندما يواجه الإنسان تهديدا ما ، فأنة يسارع نحو دفعه بشتى السبل ومختلف الطرق المتاحة له ، وقد يلجأ إلى إمكانياته الشخصية إن كانت قادرة على دفع هذا التهديد ، أو قد يلجأ إلى من حوله من الناس كي يشاركونه في دفع هذا التهديد ودرء مخاطرة عنه .
هذا إذا كان التهديد مقدورا على دفعه بالطرق العادية بمعنى أنه أقل شدة من الوسائل التي سوف تستخدم في التعامل معه ، أو بمعنى آخر : كونه مقدورا على إحتوائة واستيعابه من قبل الشخص أو الأشخاص الذين يواجهون هذا التهديد .
أما إذا كان التهديد غير مقدور على دفعة بالطرق العادية كونه قد اتخذ وضعا يفوق إمكانيات الأشخاص في التعامل معه وتحجيمه ، فإنه لا يمكن اللجوء إلى الطرق العادية في التعامل معه بل يجب - في هذا الإطار - استخدام أساليب مبتكرة ووسائل غير مألوفة يتم التعامل معه من خلالها كنوع من التجربة التي قد تنجح فيزول التهديد وتتلاشى آثاره ، أو قد يفشل فيلجأ الإنسان إلى أسلوب جديد وطريقة أخرى أكثر تطورا وابتكارا للتعامل مع هذا التهديد وآثاره .
فهناك تهديدات كثيرة تواجه المجتمع البشرى - ككل - في الوقت الحاضر ، بعضها سهل الاستيعاب يمكن التعامل معه ودرء مخاطره بسهولة ، وذالك كالتهديدات المادية المتمثلة في الأخطار الطبيعية والهزات الأرضية والأمواج المدمرة وغيرها ، والبعض الآخر لا يمكن التعامل معه بالطرق العادية المألوفة ، بل يجب التعامل معه باستخدام وسائل مبتكره لمواجهته ودرء مخاطره والتغلب عليه وهذا النوع من التهديدات يتمثل في التهديدات الثقافية أو الغزو الفكري - كما يحلو للبعض أن يسمى -
فهذا النوع من التهديدات ليس من السهولة بدرجة أنة يمكننا التعامل معه بنفس الأساليب التي يواجه بها النوع الأول ، لأنة لايوجة إلى الأشياء المادية بقدر مايوجة إلى العقل البشرى وإن امتدت آثاره - فيما بعد - لتشمل أبعادا ماديه إلا أن هدفه الأول هو الفكر وليس المادة ، ولذالك فإنه لا يمكننا التعامل مع التهديدين بالطريقة نفسها ، فلا يمكننا مثلا أن نعلن الحرب على شعب ما بحجة أنة يعتنق فكرا معينا ، وكذالك فإنه ليس من المعقول أن ننقذ ضحايا الغزوات الفكرية بالطريقة التي ننقذ بها ضحايا أمواج " تسونامى " على سبيل المثال .
فكما نتعامل مع التهديدات المادية بأساليب مادية ، كذالك ينبغي أن نتعامل مع التهديدات الثقافية بأساليب عقلانية فكرية مبتكرة وقابلة للتطور ، إذ أن الفكرة تتميز بمرونتها وسرعة تطورها الأمر الذي يجعلها قادرة على التعامل مع أي نوع من هذه التهديدات مهما تلون جلدة وارتدى ثياب الحرباء ، إذ أن الفكرة قادرة - في الوقت ذاته - على إتباع نفس الأسلوب والتلون بشتى الألوان ومسايرة مختلف الاتجاهات ومن ثم فهي في النهاية قادرة على ابتلاع وهضم هذه الأفكار الغازية المهددة ، وإبطال مفعولها وإزالة تهديدها ، بل وقادرة أيضا على إنقاذ ضحاياها - إن وجدوا - الأمر الذي يعطيها فعالية عالية وقدرة فائقة على مواجهة مختلف التحديات والتغلب على شتى التهديدات الفكرية التي تواجه الجنس البشرى .
ولقد أثبت التاريخ فشل الحكام في إنهاء التهديدات الفكرية عن طريق القمع والإرهاب ، وفشلت كافة السجون وعجزت أعواد المشانق ويئست مختلف وسائل الاضطهاد والتعذيب من منع انتشار الأفكار التي يرفضها بعض أفراد الجماعة المسيطرين عليها ، بل إن هذه الأساليب أعطت لهذه الأفكار الأهمية الفائقة وجعلت الكثيرين يعتنقونها كمبادئ ويؤمنون بها كأسس يبنون عليها حياتهم ، بل ودفعت هذه الأساليب الكثيرين ممن كانوا يشاركون في قمع أصحاب هذه الأفكار إلى مراجعة موقفهم ، أو في أحيان كثيرة التراجع عن موقفهم تجاه هذا الفكر بشكل تام ، بل قد أدى ذالك - أحيانا - إلى اعتناق بعض هؤلاء لهذا الفكر الذي كان في يوم من الأيام يشنون علية حربا ضروسا ويحاولون إخماد دروتة بمختلف الوسائل والحيل .
ومن هنا يتضح لنا جليا أن المواجهة مع فكر معين لا يمكن أن تؤتى ثمارها إلا عن طريق استخدام فكر مضاد ، فجميع الوسائل المادية بدءا من الاضطهاد الفكري وانتهاء بالتخلص من معتنقي هذا الفكر لا يمكنها أن تؤدى إلى التخلص من هذا الفكر بقدر ماتساهم مساهمة فعالة فى تدعيمه وتقويته وزيادة ترسيخه في العقول ، فالأسلوب المادي في محاربة الفكر يعد غباءا مستحكما من قبل الذين يعتمدونه كوسيلة يتم بها التعامل مع الفكر الغير مرغوب فيه إذ أنهم بهذه الأساليب يسلكون الطريق العكسي ، ويساعدون على بناء وتقوية وتدعيم هذا الفكر الأمر الذي يتناقض مع وسائلهم الهادفة إلى محو هذا الفكر وإزالة آثاره .
فعندما واجهت الولايات المتحدة الفكر الإسلامي المتطرف بإعلانها الحرب على أفغانستان وتعقب أسامة بن لادن وماثلا ذالك من اعتداءات على دول عربية أخرى ، فإنها لم تصل إلى النتيجة التي كانت تبتغياها بإزالة هذا الفكر وأتباعه من الوجود بقدر ماسا عدت على انتشار هذا الفكر بصورة مزعجة تجعلنا نستغرب ونضع الملايين من علامات الاستفهام والتعجب أمام التناقض الواضح بين الأهداف والنتائج الشيء الذي لم تصنعه الصدف البحتة بل هو الواقع الذي سبق تكراره في عصور مختلفة سابقة ، الأمر الذي يثبت لنا عدم فعالية المواجهة المادية مع الفكر بل إن نتائج هذه المواجهة تكون - في الغالب - معاكسة للأهداف التي تم استخدام هذه الوسائل المادية لتحقيقها .
ومن هنا فإنه لابد من استخدام لغة الحوار في التعامل مع الأفكار الوافدة ومحاولة الاقتناع بها أو رفضها وردها عن طريق أفكار مضادة تزيل فعاليتها وتمحو من العقول آثارها ، وهذه هي الوسيلة الوحيدة الفعالة في مقامة التهديدات الفكرية التي قد يرفضها بعض أفراد الجماعة البشرية ، ويرون أنها قد تضر بالصالح العام للجماعة ، ولكن رفض هذا البعض للفكرة لايعنى - بالضرورة - رفض فض جميع أفراد الجماعة لها ، فقد يعتنقها البعض اقتناعه بها ويرفضها البعض مكابرة أو لعدم قدرته على إقناع نفسه بها ، ومن ثم كان لابد من تحقيق التوازن داخل الجماعة البشرية بين معتنقي الفكرة ورافضيها .
فالفكرة - في معظم الأحيان - لاتقتصر على كونها شيئا معنويا قد يطول الورق عن طريق حبر ألكتابه ، وإنما تتعدى الفكرة هذه الحدود لتترك آثارا ماديه على بعض الجوانب الحياتية لبعض أو لكل أفراد ألجماعه البشرية .
ومن هنا فإنه يلزم التفريق بين بعض الأفكار وبعضها الآخر على أساس مدى امتداد آثارها إلى بقية أفراد الجماعة البشرية ، فبعض الأفكار لا تتعدى آثارها المادية حدود الشخص الذي يعتنقها ويؤمن بها كالأفكار المتعلقة بأمور شخصية جدا خاصة بإنسان ما ، فإن حدود هذه الأفكار لاتتعدى حدود تعامل هذا الشخص مع نفسه ولا تتجاوز حريته الشخصية ولا تمتد آثارها إلى من حوله من الناس ، فهذه الأشياء المادية الشخصية المترتبة على أفكار معينه يعتنقها إنسان معين ويؤمن بها لا يمكننا الإدلاء برأينا فيها بالرفض أو القبول لأنها لا تعنينا في شيء .
وهناك بعض الأفكار التي تمتد آثارها المادية لتشمل التعاملات المشتركة بين الناس ، وهنا يجب أن نميز بين نوعين مختلفين من الأفكار التي تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد ألجماعه البشرية ، فبعض الأفكار تترتب آثارها على بعض أفراد ألجماعه كرغبة شخصين في إقامة علاقة عاطفيه أو جنسيه ، أو اتجاه بعض الأفراد للتفكير في الاشتراك في عمل ما وغير ذالك من العلاقات المبنية على أسس فكريه والتي تمتد آثارها لتشمل أكثر من فرد من أفراد المجتمع - وليس جميع أفراده - ، فهذه الأفكار يمكننا الحكم عليها بالقبول أو بالرفض على أساس مدى تقبل جميع الأفراد المكونين لهذه العلاقة للفكرة أو عدم تقبل بعضهم لها ، فلكي يصح التطبيق العملي لمضمون هذه الفكرة على أفراد معينين يلزم لذالك موافقة كل فرد - على حده - على هذه ألفكره وإلا استبعد من هذه العلاقة .
أما إذا امتدت الآثار المادية للفكرة لتشمل جميع أفراد ألجماعه ، فإنه - وفى هذه الحالة - لايشترط لتطبيق هذه ألفكره موافقة جميع أفراد ألجماعه بلا استثناء ، إذ أن هذه الموافقة الجماعية تعد من رابع المستحيلات لاختلاف الطباع والأفكار والرغبات من شخص إلى آخر ، ولذا فإنه يجب عند تطبيق هذه ألفكره موافقة غالبية أفراد الجماعة عليها حتى وإن لم تكن الأغلبية مطلقه فإن الهدف من تحقيق هذه الأغلبية يكمن في محاولة إكساب هذه الفكرة قدرا من المشروعية عند تطبيقها على جميع أفراد ألجماعه وذالك كفكرة ضرورة وجود حاكم على رأس كل جماعة بشريه ، فإن اختيار مثل هذا الحاكم قد يختلف من شخص إلى آخر على حسب رغبة كل منهم في اختيار الشخص الذي يمثله في القيام بهذه المهمة ، فمن ثم فإن موافقة جميع أفراد ألجماعه على اختيار شخص معين تعد غير ممكنه ، ولذا لزم موافقة الغالبية من أفراد ألجماعه على تعيين شخص معين حتى وإن أختار بعض الأفراد الذين لايمثلون الأغلبية فردا آخر فإن هذا لايعنى وجوب تطبيق الأثر المادي لرغبتهم الفكرية في هذا الإطار لأن هذا الأمر يشمل جميع أفراد ألجماعه وليس فردا واحدا أو مجموعة أفراد قليلة العدد .
ومن ثم فإن قبول الفكرة عند أفراد ألجماعه أو ردها يتوقف على المدى الذي تصل إليه آثارها المادية على النحو السالف بيانه والذي يبنى على أسس ومبادئ فكرية محضة ، الأمر الذي ينفى مادية التعامل مع الفكر ويجعل من التعامل المادي معه أسلوبا سقيما عاجزا عن مواجهة الفكر والقضاء عليه الأمر الذي يهدف إليه الأسلوب المادي المتبع ، مما يجعلنا نؤمن بضرورة المواجهة الفكرية والحوار الجاد بين الأفكار المختلفة ومحاولة موازنتها بمصالح أفراد المجتمع وعدم مواجهتها بالطرق العنيفة التي قد تمنحها حقا ليست له أهلا ، وقد تعطيها مكانة لا تليق بها الأمر الذي قد يؤدى إلى الانتشار السلبي لهذه الفكرة ومن ثم لا تكون معبرة عن التفكير المنطقي الصحيح من قبل الأفراد ، بل قد تعتنق كنوع من استكشاف الجديد دون الاقتناع التام به الأمر الذي يضفى على معتنقيها طابع التشدد في فهمها ويجعلهم يستخدمونها استخداما أعمى على غير اقتناع بالمضمون الفكري الحقيق لها .